في الحلقة الأولى من سلسلة مقالات «جنود الخلود» الدراسية في الأدب والعلم عن طريق النظر في ما أثاره رشيد سليم الخوري بمطاعنه الخفية في شخصية الزعيم وبتحامله على الحزب السوري القومي وبتصدّيه للحكم في أمر المسيحية والإسلام على جهل منه، وهي المقالات التي تنشرها الزوبعة وتشاركها في النشر سورية الجديدة وردت هذه العبارة التي هي للزعيم: «لا فائدة من التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة.» ووردت أيضاً هذه العبارة: «ولـمّا كانت الحرب بين النهضة القومية وأعدائها (الداخليين)، أصحاب الخصوصيات والرجعة، واقعة فلا بد أن تشمل الأدب أيضاً، لأنـها حرب كلية بين نفسيتين وما فيهما من قوى وعناصر.»
ووردت في الحلقة السابعة من السلسلة المذكورة هذه العبارة: «إنّ الحركة السورية القومية، التي هي حركة محاربة، مهاجمة، لا تخشى «إشهار الحرب» من قبل بعض «رفاق» الخوري.»
ذكرنا هذه العبارات لأن لها علاقة وثيقة بما سيجيء في هذه المقالة لوضع كل شيء في محله فيما يختص بجريدة السمير ومحررها وموقفها الأخير من الحركة القومية:
السمير جريدة يومية تصدر في برُكلن، نيويورك، الولايات المتحدة. صاحبها ورئيس تحريرها المسؤول ومحرر «اليوميات» فيها، إيليا أبو ماضي الشاعر السوري الذي له موهبة شعرية حقيقية ولكنها تحددت تحدداً كلياً بعامل نشأة الشاعر وبيئته وحياته، على ما يظهر. ولا معلومات أكيدة عندنا عن ثقافته ودراسته الصحيحة. ولكن يمكن استنتاج مداها من مقالاته وما يبذله من جهد في جريدة السمير.
عندما بلغ أمر الحزب السوري القومي أميركة حبّذته صحف سورية عديدة في المهجر. وبلغنا أنّ الشاعر إيليا أبو ماضي يصح أن يحسب سورياً قومياً. هذا ما اعتقده الذين بلّغونا ذلك وهذا الاعتقاد مبني على نسبة معرفتهم الحزب السوري القومي ومبلغ فهمهم قضيته وحركته. وقد حاولنا أن نعلم حقيقة موقف محرر السمير من الحركة السورية القومية ومبادئها ومراميها وخططها. فراقبنا مدة نحو سنتين نهج السمير في هذا الصدد فلم نجد صحة لما قاله بعض حسني النية حول قومية أبي ماضي، بل وجدنا هذا الشاعر وجريدته يعرجان بين ناحية وأخرى. فمرة نقرأ مقالاً يذكر «الأمة السورية» وأخرى نقرأ مقالاً يسمي السوريين «عرباً»، أي بتجريدهم من نسبتهم إلى «الأمة السورية» التي اعترفت بها السمير، ثم نقرأ مقالاً يحبب الناس بنسيان كونهم مهاجرين من وطن يشتاقهم ويشتاقونه، فلا تمرّ أيام قليلة حتى نقرأ مقالاً آخر يطلب من هؤلاء الناس عينهم أن يسارعوا إلى الاهتمام بما تنسى السمير أنـها علّمتهم أنه لم يعد وطنهم، إذ صار وطنهم حيث يعيشون في مهاجرهم. وقرأنا بعض مقالات من قلم تحرير السمير ظاهره في مصلحة الحزب السوري القومي ولكنه يحمل سناناً حاداً يطعن به هذا الحزب من غير سبب معقول واضح. وأحياناً تنشر السمير لكتّاب قوميين أو محبذين للحركة السورية القومية مقالات ولكن يندر أن لا تهشم هذه المقالات وتمسخها. فمن حيث المسائل القومية والسياسية المتعلقة بأمتنا ووطننا ترى السمير مائعة كل الميعان. وهذا الميعان هو الذي شجع بعض القوميين على الظن أنّ إيليا أبو ماضي يقترب رويداً من النهضة القومية وأنه يجب تشجيعه.
وقد تورط بعض هؤلاء الرفقاء وسلكوا مع أبي ماضي سياسة التوفيق بين القومية واللاقومية وهي السياسة التي يشجبها الزعيم ويقول بعدم فائدتها.
مع كل ذلك لم نقطع الأمل من إيليا أبي ماضي. ومع كل الإساءات إلى الحزب السوري القومي وإلى شخص الزعيم التي تعمدتها السمير لم نشأ أن نسدد هذا الحساب، خصوصاً لأن الزعيم شاء التساهل في حقوقه المهضومة وفي أمر السمير، قائلاً: «لعل لأبي ماضي عذراً من أموره الخصوصية» فاحترمنا مشيئة الزعيم. وشجعنا على هذا الموقف من السمير ما بلغ مدير هذه الجريدة الزوبعة من أنّ أبا ماضي قال لبعض القوميين «أنا معكم» وأنه أظهر أسباباً خصوصية لعدم تمكنه من التظاهر بموقف سوري قومي صريح. ولعل اعتبار هذه الناحية هو ما حمل الزعيم على الإشارة بعدم فتح مسألة السمير وموقفها من الحركة السورية القومية. ونحن نعترف أنّ هذا السبب هو الذي شفع عندنا بموقف محرر السمير ليس فقط في ما يختص بالحركة القومية، بل في ما يختص بالأمانة الصحافية للتاريخ وللحقيقة وللرأي العام.
ظل هذا شأننا إلى أن وردتنا أعداد شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين من السمير فوجدنا أنـها تحمل تحاملاً لا يصح السكوت عليه. خصوصاً العدد 107 الصادر في 26 مارس/آذار الماضي وفيه مقال رئيسي في باب «يوميات» تحت عنوان «سورية الجديدة والشاعر القروي». وهذا الباب هو الخاص برأي الجريدة المسؤول عنه رئيس تحريرها الذي يدوّن فيه أفكاره وتعليقاته. والمقال يتناول «هاني بعل» ومقالاته «جنون الخلود» والزوبعة وسورية الجديدة والحزب السوري القومي.
التحامل هو سدى المقال المذكور ولحمته. نقول ذلك بصورة جازمة ونؤيد قولنا بأدلة لا تنقض من المقال عينه. وأهم دليل نورده هو أنّ كاتب المقال اعتمد على استبداده الشخصي بالمنطق وبالاستنتاج من غير دليل ليطلق أحكاماً لا نعتقد أنّ موارده الثقافية تعينه على إثباتها، كقوله عن هاني بعل إنه «بعيد عن أن يكون كفؤاً لتحليل نفسية شاعر كالشاعر الذي اختاره هدفاً، الخ.» فالشيء الوحيد الذي يستند إليه أبو ماضي ليقول هذا القول هو الأسلوب الخطابي ـــ الشعري، الذي استعمله في المقال الذي نحن بصدده، والمقام ليس مقام خطابة وأشعار، بل مقام بحث في حقيقة الشعر، والبحث له دراساته وشواهده وأدلته واستقراءاته.
وبعد كثير من الكلام الاستبدادي غير المدعوم بشاهد أو برهان رأى الكاتب أن يحاول محاولة توهم القرّاء أنه يستند إلى دليل. وهذه المحاولة هي أن يتناول، من ضمن البحث كله الذي بحثه هاني بعل، أبياتاً ثلاثة فقط للقروي وبعض عبارات أو مدلول عبارات لهاني بعل في صددها، مهملاً بقية العبارات وكل التحليل المتعلق بهذه الأبيات وموضوعها وما هي متعلقة به من أبيات تأتي بعدها. ومهملاً كذلك أهم نقاط البحث المتعلقة «بشاعرية» الخوري ومنظوماته.
والحقيقة أننا كنا، حتى الآن، نجهل أنّ أبا ماضي في نقد الشعر والأدب على الجملة كرشيد الخوري في بحثه في طبيعة الدينين المسيحي والإسلامي، فشاء أن لا نبقى في هذا الجهل، فشكراً له.
قال أبو ماضي في المثل الوحيد الذي رأى أنه يجوز أن يجد فيه حيلة للدفاع عن رشيد الخوري وشاعريته:
«ومن الأمثلة على تجنّي الناقد (هاني بعل) أنه تناول هذه الأبيات وعركها عركاً كما يعرك المرء بيده أوراق وردة ندية ثم يطرحها جانباً وهو يقول - أي جمال فيها؟ وهي:
غـــرست بـــلـــبــنـــان ورد الأمــــــــــــــــل
فــــقـــل لـــلبرازيـــل أن تمـــحـــــــلا
وجــــدت عــــلــيـــه بمزن المقــــل
فـــقــــل لـــلأمـــــــــــــــــازون أن يـــبــخــــلا
وحــلّــيــت قــلــبــي بنبع «العسل»
فـــقـــل لـــلــيــالي أمــــــطــــــــــــري حـنـظــلا
«أنظر ما يقول «هاني بعل» في هذه الأبيات: «هي قول أو تقصيـد مجرّد من كل صورة شعرية. والصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصـوره مخيلة قـوال بسيط.»
«وليس الأمر كما قال، بل ما أبعده مما قال. ففي هذه الأبيات صورة مشرقة من صور محبة الوطن الأول (عند أبـي ماضي يوجد وطنان أو أكثر فالأول هو الذي ولد فيه والثاني حيث يقيم والثالث هو الذي يحتمل أن ينتقل إليه وهلمّ جرّا فما أبدع هذه الفكرة الوطنية!) لا يمكن أن نرى مثلها إلا في شعر تلك البدوية المتداول على الألسنة وهو: لبيت تخفق الأرياح فيه، الخ. والقروي لا يقضي على البرازيل أن تمحل كما توهم الناقد ولكنه يقول:ما دام لي في لبنان ورد الأمل الذي غرسته فلا أبالي أن تمحل البرازيل التي أنا فيها (ألا يشعر أبو ماضي بالغضب لإهانة الوطن الثاني؟! ). وبعبارة ثانية يقول - لا أبالي ما ينالني في البرازيل من العسر والضنك ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي.»
هذا هو المثل الذي اتخذه أبو ماضي، وهذا هو برهانه الوحيد للتحامل على هاني بعل ورميه «بالتجني» وبأنه «ليس كفوءاً لتحليل نفسية شاعر». والذين تابعوا سلسلة «جنون الخلود» من أولـها وفهموها يرون أنّ تحليل هاني بعل لنفسية الناظم الملقب بالقروي تناول تحليل قصائد برمّتها وأبيات كثيرة من ديوانين له. ويرون أيضاً أنّ أبا ماضي كان مغرضاً في فهم نقد هاني بعل للأبيات المتقدمة وأنه هو، أبو ماضي، هو الذي جاء بزجاجة مشعثة مشوهة ووضعها على عينيه ليرى نقد هاني بعل بها، وجاء بزجاجة ملونة نظر بها الى أبيات الخوري المذكورة آنفاً ليراها بألوان الزجاجة لا بألوان الأبيات الحقيقية، فبرهن أنه أبعد ما يكون عن نقد الشعر والأدب وعن فهم نظرات الناقد الذي هو كفوء للنظر، ليس فقط في نظم من هم مثل رشيد الخوري وإيليا أبو ماضي، بل في الشعر على إطلاقه من الوجهة العالمية، كما تشهد بذلك تحليلاته الدقيقة في «جنون الخلود».
يرى القراء الذين يهتمون بمقابلة ما فهمه، أو ما أراد أن يفهمه أبو ماضي، من نقد هاني بعل لهذه الأبيات والأبيات الأخرى التي هي من القصيدة عينها على النقد الأصلي كما ورد في الحلقة الثانية من سلسلة «جنون الخلود» أنّ أبا ماضي أراد أن يفهم الأبيات ونقدها على الوجهة التي يحبها لا على الوجهة التي تشير إليها الأبيات.
إنّ هاني بعل لم يقل إنّ هذه الأبيات لا تشتمل على محبة الوطن (الذي يسميه أبو ماضي الوطن الأول) ولكنه قال إنها سخيفة كشعر للدلالة على محبة الوطن وموضوع «الرجاء الوطني» الذي وضع لها. ولنذكر أنّ هاني بعل ذكر أنّ نقده لمنظومات الخوري كان مستعجلاً، أي أنه لم يقف عند كل التفاصيل التي يمكن كل ذي عقل سليم استخراجها بالقياس على غيرها، لأن موضوع بحثه الأساسي هو «محاضرة» الخوري في المسيحية والأسلام.
ولم يجزم هاني بعل بأن هذه الأبيات لا تحتمل التأويل على الوجه الذي يشير إليه محرر السمير وهو «أن لا يبالي الناظم بإمحال البرازيل أو بضنكه فيها» ما دام قد غرس ورد أمله بلبنان، وقد حاول أبو ماضي تلوين هذا التأويل فوضع زجاجة ذهبية اللون على عينيه وقال:«وبعبارة ثانية يقول - لا أبالي ما ينالني في البرازيل من العسر والضنك ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي.» فقوله «ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي» هو وضع وصف جديد غير موجود في الأبيات نفسها. وعلى طريقة أبي ماضي في فهم الشعر يكون الشاعر شاعراً ليس على قدر شاعريته هو، بل على قدر تخيل شاعر آخر لشاعريته. وهذا ما أشار بوجوب الحذر منه هاني بعل في مقالته الانتقادية عينها، وهي الثانية، بقوله في موضع آخر: «وإخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قارىء في تخيل الصور والأشكال». فالشعر الحقيقي يجب أن يكون دليله من تعابيره لا من مخيلة القراء الشعراء.
وكلام أبي ماضي في الدفاع عن الشعر في الأبيات المذكورة لا يغيّر شيئاً من حكم هاني بعل عليها من حيث مدلول الأبيات الشعري لا من حيث ما قصد الناظم. فنقد الشعر يكون بالنظر الى ما تصفه أو تمثله الأبيات لا بالنظر في قصد الناظم الأولي الذي قد يكون جميلاً ثم يشوهه بطريقة نظمه. وهذا ما يحسن أن يتعلمه محرر السمير الذي قد يكون شاعراً موهوباً في ناحية من نواحي الشعر، ولكنه برهن على أنه ليس ولا يصلح أن يكون ناقداً للشعر. فبين الشاعر وناقد الشعر مسافات لا يمكن اجتيازها بقصيدة ولا بخيال ولا بتفنن !
إنّ الشعر موهبة وفن، أما نقد الشعر فثقافة اختصاصية واسعة، تقوم على علم غزير ودراسة طويلة وموهبة أخرى للنظر في المنظومات في ذاتها، وليس للنظر في ما نقدر أن نتخيل أنّ الناظم أراد منها.
ولجهل أبي ماضي هذه الحقيقة الجلية تورّط في كلام أرسله اعتباطاً في أمور يعاب عند أهلها بجهلها. من ذلك قوله:
«أما فكرة القروي الوطنية فلن تتفق أبداً مع فكرة «هاني بعل»، لأن هذا قد قنع بحيّز محدود في الحياة لا يتعداه ولا يريد أن يعترف بسواه، بينما الشاعر لا يحصره حيّز من فكر أو مادة. وهذه ميزته الأولى وطابعه المعلم.»
هذا هو فهم أبي ماضي للقومية. وهذا هو مقياسه للشعر والشاعر.
فإذا كان الشاعر لا يحصره حيّز من فكر أو مادة، وكان، لذلك، لا يفهم معنى الوطن أو لا يتقيد به لأن الوطن هو حيّز محدود، فلماذا يتكلم هذا «الشاعر» عن الوطنية والرجاء الوطني!
وإذا كان الوطن لا يعني حيّزاً محدوداً للشاعر، فلماذا وضع الناظم الذي يدافع عنه أبو ماضي رجاءه الوطني في لبنان، وليس في الدنيا كلها أو في الكون أو في اللاشيء أو اللامحدود؟!
الحقيقة أننا لم نكن نتوقع أن يكون أبو ماضي أقل فهماً للوطن من رشيد الخوري. فإنّ هذا الأخير، على سخافة نظمه وخلو معظمه من الشعر وعلى شدة ميعان فهمه للوطن لم يصل إلى هذا الدرْك من الشاعرية الذي يصير للشاعر فيه أكثر من وطن واحد بالمعنى القومي، كما هو الواقع للشاعر إيليا أبو ماضي!
ويبدو ضعف تفكير أبي ماضي، بل عجزه التفكيري في قوله: «إذا كان الشاعر القروي سخيفاً لا شأن له كما يقول الناقد (هاني بعل) فما أحراه أن يكون كبيراً فلا يتعرض للسخيف التافه.»
وعلى هذا القياس يكون العارض لدرس الحيوانات والحشرات الحقيرة الشأن بالنسبة للحيوانات العليا أحقر من الحيوانات والحشرات التي يدرسها ليستخرج عبرة منها للناس!
وعلى هذا القياس لا يجوز أن نسمّي من يدرس طبائع الحيوانات الدنيا عالماً زولوجياً بيولوجياً، بل حيواناً دنيّاً حقيراً. فلله درّ أبي ماضي في مقاييسه الفكرية والفنية!
إننا، في كل ما رأينا من أنواع التفكير السخيف، لم نجد تفكيراً أشد تعثراً بأذياله من هذا التفكير!
كلا، يا أبا ماضي. ليس الشاعر هو ذاك الذي لا يحصره حيّز من فكر أو مادة. بل الشاعر هو الذي يقدر على إبراز أسـمى وأجـمل ما في أي حيّز من فكر أو مادة إبرازاً جميلاً سامياً، رائعاً. وشرطه أن يكون مدركاً كل الإدراك لحيّز الفكر والمادة والشعور ليتمكن من التعبير عن الأشياء تعبيراً غير خارج عن حقائقها الأساسية.
إنّ في عالم الإنسانية حقائق أساسية وأوليات منطقية إذا تجاوز حدودها الشاعر لم يعد شاعراً، بل صار هاذياً سخيفاً لا يكون أسخف منه من يبين سخفه للناس، ولكن يكون سخيفاً مثله من ينتصر لهذيانه ويتهم العالِم الذي أوضح حقيقة أمره بالسخف.
فنقول لأبـي ماضي: إنّ سقي ورد الأمل بالدموع الهاطلة في معرض الرجاء ليس شعراً سامياً جميلاً، بل نظماً سخيفاً لا نرى فيه الإشراق الذي يراه أبو ماضي، لأننا لا نضع على أعيننا الزجاجة الملونة بوهج الذهب التي يضعها على عينيه. وكذلك لا نرى إشراقاً في شد حبل الرجاء الوطني بصخور صنين، وهو النتيجة التي تصل إليها القصيدة التي تكوّن الأبيات مقطعها الأول.
وقد أعلن هاني بعل نفسه أكثر من مرة في سلسلة أبحاثه أنه لا يقصد تحليل كل جزء من أجزاء منظومات الخوري تحليلاً كاملاً. فهو قد اجتزأ في بعض المواقف، أو في الكثير منها، على جلَّ ما يمكن أن يقال وأحياناً على بعضه، تاركاً استخراج الباقي للقارىء السليم الفهم. وهذا الباقي ليس من الضرورة بهذا المقدار، والدليل أنّ اجتهاد أبي ماضي في تأويل الأبيات التي اتخذها مثلاً لنقد هاني بعل على وجه محتمل، موجود ضمناً في تحليل هاني بعل الذي يقول أيضاً، وهو ما لم يذكره أبو ماضي، «ولماذا يجب أن يزدري الناظم خصب البرازيل وغزارة أمازونـها؟» وهو قريب جداً أو مرادف لمعنى «عدم المبالاة بإمحال البرازيل» الذي تشبث به محرر السمير هذا التشبث الكلي ظاناً أنه قد اكتشف شيئاً جديداً يستطيع به أن يذرّ الرماد في العيون فتعمى عن النقد الجليل الذي أبرزه هاني بعل. ووردتنا رسائل من أدباء لهم وزنهم تعدّه تحفة أدبية أوضحت حقائق كانت خافية على الكثيرين. فهذا الاجتهاد لم يظهر نظرة جديدة كاملة تغيّر جوهر النقد.
لم يُطِل هاني بعل التحليل لما لم يعتقد أنّ هنالك لزوماً لتحليله بكل دقة، نظراً لقلة أهميته بالنسبة إلى البحث. فهو قد مرَّ بالكثير من منظومات «القروي» مراً سريعاً، مكتفياً هنا بإشارة أو اثنتين وهناك ببعض ملاحظات. وكل مدرك غير متغرض ولا متحامل، يرى أنّ المثل لكمال النقد في منظومات الخوري هو نقد قصيدة «تحية الأندلس». هذا هو النقد الذي يصح أن يقاس غيره عليه، لا أن يقاس هو على غيره الوجيز، كما أراد أبو ماضي ليحوّل الأنظار عن النقاط الأكثر خطورة وليستر فضيحة زميله الخوري.
نحن من سورية وليس لنا غير وطن واحد هو سورية. هي وطننا الذي به نحيا ومن أجله نموت. وإننا نعلن أننا لا نقبل وطناً آخر مهما كان ذهبياً أو عاجياً أو فضياً. إنّ الذهب عندنا لا يمكنه إنارة أبيات مظلمة. ليس السوريون القوميون هم الذين يستعيرون وهج الذهب (المادة) ليجعلوا «مشرقاً» ما لا إشراق فيه من المنظومات! ليسوا هم الذين يقيسون نقداً أدبياً عظيماً تناول آفاقاً بعيدة من الإدراك السامي والشعور العميق والفهم الواسع بسطر أو سطرين منه لا تتجاوز كلماته بضعة مليمترات مكعبة اختيرت عمداً لغاية مستورة وكيل إلى جانبها أردب من وهج الذهب في محاولة عقيمة للطمس على حلومنا حتى لا تعود تميّز بين الرجاء الحجري والرجاء الذهبي!
بقي أن نقول كلمة أخيرة نطلب من محرر السمير أن يقيسها بالسنتيمتر المربع أو المكعب، لأنـها ليست أريج وردة ولا وهج ذهب أو ضوء قمر. وهي:
نسأل أبا ماضي أو صاحب المقالة التي كتبها على مسؤولية أبي ماضي ماذا يقصد بقوله: إنّ الملقب بالقروي «له فضل عميم على القائمين بهذه الفكرة (أي فكرة الحزب السوري القومي).»
نطلب منه أن يوضح ذلك بالحقائق الاستقرائية التاريخية غير المنفلتة من كل حيّز فكري أو مادي، وليس بكلام شعري تفرض فيه الخيالات والأوهام على الحقائق بصورة استبدادية تحقّر المدارك البشرية وتهدم البناء الثقافي الذي عملت الإنسانية عشرات القرون في تشييده. نريد كلاماً له محصّل حقيقي تاريخي أو حقوقي.
أما نعته الحزب السوري القومي «بالمتحاملين» فلا نحمله على غير محمل عجز أبي ماضي عن التمييز بين أي هو الذي يقول الحقيقـة، وإن يكن أحياناً بعنف يقتضيه الإباء القومي ضد الإهانة، وأي هو المتحامل. وأما ما يفهمه مـن غايـة الحزب السـوري القومي مـن إنشـاء الجرائد فلا يتعدى فهمـه ما أنشأ لـه السمير، وممـا لا شـك فيـه أنّ السوريين القوميين أنشـأوا وينشئـون الجرائـد لغير الأغـراض التي أنشأ لـها أبـو ماضـي السمير!
في العدد القادم نثبت الناحية الأخرى من تحامل السمير على الحزب السوري القومي، وعلى شخصية زعيمه وحقوقه، ومن تشويه الحقائق التاريخية وعدم الأمانة للحقيقة، وحق الرأي العام.